الايمان

READ THIS IN ENGLISH

خلق الله الناس مختلفين عن بعضهم في الصوت والصورة والطموح، وتلك من الرحمات التي نرفل بها إذ يحاول كل منا تشكيل حياته بما يتماشى مع تطلعاته اليومية ذلك لأنه بطبيعته الخلقية لا يقنع بما خطط له البارحة، إذ أنه يغير خططه عند كل صباح بما يتماشى مع مزاجه الذي استفاق عليه، ليس لأن الله خلق الإنسان أكثر شيء جدلًا فقط بل لأنه يعيش في لبنان/ وتحديدًا لبنان الشمالي. أنا من سكان لبنان الشمالي حيث يعيش أبناء منطقتي حيوات مختلفة، كل منا يعيشها باختلاف مخطّطاته وواجباته وأولويّاته.

يجمعنا فيها مبدأ "اليوم الذي يمضي سيأتي يوم آخر مثله تمامًا" لا شيء جديد في الأمر، إلّا أن أزمة عالمية حلّت بالكون وغيّرت مجرى الأحداث، أصبح الجميع الآن متساوين، لبنان من أقصاه إلى أقصاه يجمعه العزلة والخوف والتخبط، معظم القطاعات توقّفت، الغني والفقير معنيين في الأمر ولا أحد أفضل من أحد الآن. تساوى الجمع والرب واحد. أصبحت أشعر بأنني أنتمي لوطن يساوي بين أبنائه من حيث العمل والطموح إذ أن الجميع لزم داره وأصبح يخاف المستقبل كما نفعل نحن تمامّا. على مستوى العالم الكبير، جميع القطاعات تأثّرت اقتصادياً واجتماعياً وصحياً وتعليميًا، ولكن في لبنان تحديدًا كان التأثير أعمق إذ أننا نعيش أزمة وطن وأزمة حقوق وأزمة ثقة. 

أنا خريجة هندسة عمارة أقطن في طرابلس العاصمة الثانية للبنان. أنهيت دراسة الدبلوم في صيف ٢٠١٩. أعيش في مدينة سكّانها من الشعب البسيط الذي يعيش على الكسب اليومي وبالعامّية يُعرفون بالمياومين. أم الفقير حيث المنقوشة بخمسمائة ليرة. شهدت طرابلس تاريخًا عريقًا حيث كانت أكبر المكاتب وعلى هذا سمّيت بمدينة العلم والعلماء فكانت تضم من أكبر المكاتب في بلاد العرب ولكن أحرقت جرّاء حرب شهدتها قديمًا على أيدي من شيعوها عذراء طاهرة لأنها كانت تغيظهم بطهارتها وعلمها ودينها الطيب. بيوتها وحاراتها تتكلم عن تاريخ العمارة الإسلامية الممزوجة بالعمارة الحديثة لتعرف بعد ذلك أنهّا تعيش العهدين معًا القديم والجديد بتجانس يفوق الوصف. 

إذا أردت أن أسرد نهارًا واحدًا واصفةً فيه ما أفعله خلال الحجر الصحي فإنني أبدأ نهاري عند الساعة الخامسة والنصف فجراً بعد ان انتهي من صلاتي الروحية شاكرةً فيها الرب على يوم جديد وهبني إياه وأنا بصحة وعافية. ثم أجلس بعدها على شرفتي وأقوم بالجلسة التأملية مدتها ثلاثون دقيقة. كنت سابقًا لا أهتم بالجلسات التأملية إلاّ أنني اكتشفت مأخرًا مدى تأثيرها على النفس. ومن ثم أبدأ بالغوص في مخططات وتصاميم الهندسة المعمارية التي تنتشلني من عالمي الروتيني إلى فسحة أمل وخيال لا ينضب. أنجز ما عليَّ إتمامه من مهمّات وظيفية متقطعة تأتي برهة وتختفي لأمد. بعض تلك الأعمال يستلزم العمل كفريق واحد لذا نتواصل عبر شبكة الانترنت المنهكة لأن التواصل المباشر أصبح خطيرًا على الجميع في خضم هذه الجائحة المستجدة.

يشهد لبنان اليوم في القطاع التعليمي، تحديدًا المدارس، ضياعًا أو خللًا في تحقيق التعلّم عن بعد. فالمدارس الرسمية خاصةً لم تستطع حتى هذا الوقت من سدّ الخلل وتعويض الطلاب عمّا فاتهم من المنهج الدراسي. وإذا كان بالفعل هناك تأمين وسدّ للخلل فإن هناك مشكلة أكبر وهي أن إنقطاع الكهرباء في مناطقنا المحرومة عمدًا. يبقى قطاع التعليم تحت وطأة الكره الممنهج لا سيما في عكار بالرغم من أنّها تشكل محافظة مهمة من حيث المساحة والعدد السكاني وتعرف بالمنطقة الفقيرة التي لا يصلها كل هذه الإمدادات. حتى وإن وصلها ليس هناك فيها الإمكانيات أو اللوازم الكافية لتحقيق هذا المبتغى. لذا لا يجب علينا في آخر المطاف أن نعامل كل الطلاب على أنّهم سواسية في هذه الحالة الاستثنائية. 

في هذا الحجر، الكثير والكثير من الجامعات وورش العمل بدأت بمبادرة جدًا جميلة ألا وهي التسجيل مجّانًا في كورسات تقوم بتحديدها بناءً على اهتماماتك. ولكي أتجنّب وقوعي في الملل بدأت بالفعل التسجيل في كورسات مجانية طرحتها أهم جامعات العالم كجامعة هارفارد حيث سجّلت ثلاث كورسات تعنى بمجال العمارة، ومن هنا بدأت برحلة كسب المعرفة وأنا داخل غرفتي. 

كل ما يحيط بنا يدعو للكآبة إلا أن هذا الشعب الحمال يحمل قلبًا طيبًا مؤمنًا طموحًا يخرجه من أزماته. ترى الجميع يضحك رغم بؤسه والجميع يعطي رغم حاجته ويصنع من العدم فرصة ويستغلها بالجانب الذي يبقيه حيًا بهذا الإيمان وذاك القلب.

أما عن راحتي فلا أجدها إلا بالقرب من والدتي التي حظيت بكل وقتها بعد أن لفظ الوطن أبنائه ومن بينهم إخوتي. أصبحت أجالسها أكثر من ذي قبل ومن محاسن كورونا أننا تخطينا جميع العقبات التي تقف صامدة أمام الأعراف والتقاليد. ففتحنا جميع النوافذ وهدمنا تلك الأسوار لنبني بها جسرًا يربط بين جيلين مختلفين بفارق الزمن والحرب التي تعاود النفخ في أبواق الفقر والطمع والسرقة والعنصرية الطائفية والمناطقية "لا سمح الله ان تقع".

تجلس والدتي بحرقة تهاتف إخوتي المبعدين عنها بسبب اليم الطائفي والواسطة فتقر عينها بمشاهدة صورهم عبر الهاتف ولا تحزن محاولة التعكيز على كلمتين بالعامية "لو كانوا هون كانوا قعدوا بلا شغل بعاد صح بس عم يبنوا حالهم". أقول بصمت يخنق عبرتها: يبنون أنفسهم على حساب دقائق يأتون بها إليك في كل سنة مرة يقضون منها يومين بلا فائدة. من وإلى المطار وقت ضائع بين زحمة السير وطريق المطار التي ربما تزيد عن ساعتين ونصف بالرغم من وجود مطار قريب يصلح للتشغيل إلا أن السياسة الخبيثة منعته من العمل كما الجامعات الحكومية والمستشفيات التي لا تشفي من المرض إلا بالموت.

 

ها هو أول الأسبوع، في بنايتنا التي تحتوي على عشر طوابق بعشر شقق، تقوم لجنة البناية بجمع تبرعات مالية لتوزيعها باليد على الأشخاص الأكثر حاجة. والمسؤولة عن هذا الأمر سيدة فاضلة ومخضرمة بالمناطق والأحياء الفقيرة جدًا القريبة من المنطقة التي نسكنها. في شهر رمضان لهذه السنة، اقترحت لجنة البناية أن نتشارك افطارنا مع الفقراء من نفس سفرتنا الرمضانية على أن تكون بسيطة ومن دون تكلف من أحد لنضمن استمرارية العطاء ونشعر بحاجتنا نحن لأن نساعد أنفسنا بمشاركة أحباب الله هذا الأجر. 

بالنهاية في لبنان الشمالي، هناك سؤال بديهي سألته إحدى صديقاتي عندما شاركتها فكرتنا الرمضانية لهذه السنة علّها تقتبس منها إن أحبت: أين تجدون هؤلاء الأشخاص؟. جاوبتها حينها: أنهم في كل مكان للأسف لا وجه لديهم ولا مكان محدد لهم. ولو نريد أن نفعّل النيّة ونساعدهم حقًا سنراهم أمام أعيُننا وفي كلِّ زاوية. العطاء ومساعدة الغير هي فعليًّا، حسب وجهة نظري، ليست لمساعدتهم بل لمساعدتنا نحن، ولكم نحتاج أن نحمد الله على نعمه الكثيرة وأن نرد إحسانه المرتهن بإحساننا لعباده. فلكل منا هدف خُلق له وأُعطي مقوماته ليتشارك به مع غيره وقس على ذلك الصحة والمال… فالعطاء هو غذاء للروح وتهذيب للنفس…

آلاء مرعبي، مهندسة معمارية، لبنانية تعيش في طرابلس، شمال لبنان

Masjid Pogung Dalangan , Unsplash الصورة من قبل