حلم

بدا لي الأمر كالحلم أو بالأحرى كابوسًا جماعيًا عشناه في يومٍ وليلةٍ وسيطر على العالم بأثره. في البداية استصعبت تصديق الأمر، ما الذي جرى؟ ماذا فعلنا ؟ ماهي أخطائنا؟ بماذا يمتحننا الله؟ وكيف لنا أن نقاوم ذلك الجسم الصّغير الذي عجز العلماء عن محاربته؟

كاد المكوث في المنزل أن يصيبني بالجنون، ذلك بالإضافة إلى سماع الأخبار السّيئة عن عدد الحالات والنّداءات التي تناشد بالالتزام في البيوت وحالة الهلع التي أصابت العالم، وكل مرّة كنت أرى فيها أمي تبكي خوفاً على أختي المغتربة، وفي كل مرة أخاف على شخص أحبه يقدّم روحه لمساعدة وإسعاف المرضى، وسهر اللّيالي لمكافحة هذا الوباء.

كرّمته وكرّمت أبطال بلدي بزقفة من القلب على شرفة منزلي مفتخرةً بكل من ضحَّى لحماية أبناء وطنه.

الإنسان يستطيع الاستمرار في الحياة وفقاً للظروف المحيطة به، فميزة الإنسان أنه يستطيع أن يتعلّم ويستفيد من أي وضعية كانت ويتعوّد على أي شيء.

هذه أول مرة في حياتي اجلس في البيت لهذه الفترة الطويلة.

أدركت أن هذه الفترة صعبة ولن أنتظر أن يتغير الوضع من حولي إلى الأفضل، بل بدأت بالتّغيير من نفسي والاستفادة من وقتي.

هذا الحجر منحني وقتًا أكثر ومشاعرًا وأفكارًا وخططًا لمستقبل أفضل. 

كنتُ دائماً أفكّر أن الجلوس مع عائلتي وجهاً لوجه لوقتٍ طويلٍ قد يفجّر قنبلة موقوتة، ولكنّني لاحظتُ أنه علّمني أن ننتبه إلى التّفاصيل الصّغيرة والبسيطة، فاكتشفت مدى توازن عائلتي وقوتها أمام الأزمات واكتشفت قوة ومجاهدة والدي في عمله وتعرضه للخطر لتأمين لقمة عيش لعائلته دون التّفكير بالخوف على صحته وخطورة المرض على عمره.

نظرت إلى ماضيَّ القريب جداً، بشيء من الحنين، حين كنت أخرج من بيتي بكل سهولة، وأصافح الجميع بحرارة، وأدخل في الازدحامات دون وجل.

هذا كله صار من الماضي، خنقني هذا الحنين، ندمت على كل فرصة خروج من المنزل استغنيت عنها، هل كنّا قبل ذلك في النّعيم؟

أصبحت فكرة الخروج من البيت مخيفة، في المرّات القليلة التي خرجت فيها للتسوّق، كان ينتابني شعور غامض بالقلق، ويغمرني الحزن على منظر المدينة، وهي شبه خاوية.

يوم استيقظ على أمل في عودة الحياة الى طبيعتها، وأن هذا الوباء سيصبح ذكرى من الماضي، ويوم آخر استيقظ على إحباط ويأس وأن العالم سينتهي، وكل شيء أصبح لا قيمة له عندي غير أن أبقى أنا وعائلتي ومن أحب بصحّة جيدة.  

يا له من شعور صعب انتابني في هذه الفترة، تخبطّت كثيرًا وضحكت وبكيت وتألّمت ويأست. ولكن بالرّغم من كل هذه التّخبطات كنت أجد نقطة أمل وأتعلّق فيها.

تابعت دروسي الجامعية عن بعد وشاركت في العديد من المقابلات واكتشفت مواهبي في الطّبخ ومارست الرّياضة ورسمت وكتبت وقرأت ولعبت.

هكذا كنت أمضي وقتي لكي لا أفكر بالأمور السّيئة.

بين صحو ونوم وأكل ولعب ومتابعة الأخبار وبعض الأشغال. مضت الأيام والأسابيع.

ننتظر فرجًا من الله، لا شيء خارقًا يمكن أن نفعله. لأول مرة يكون جلوسنا في البيت عملاً بطولياً.

يبدو لي أن الانتصار الوحيد الذي يمكن تحقيقه في هذه الحقبة هو التّخلّي عن حالة الانتظار.

لم أعد أنتظر شيئًا، لا اللّقاح ولا انحسار الوباء ولا عودة حياتي القديمة.

تغيّرت نظرتي إلى العالم وحتى تفاعلي مع الأشياء المحيطة بي. عندما أطلّ من نافذة بيتي اليوم أنظرُ إلى العالم بشكلٍ مختلف وألاحظ الأشياء بطريقةٍ مختلفةٍ. 

أصبحتُ أنظرُ إلى الشّمس التي تشرق في الصّباح بامتنانٍ أكبر، وأنظر إلى النّاس الذين يخرجون دون احترام للحجر الصّحي المفروض وأفكّر في معنى المسؤولية.

وبالنّهاية أدركت أن الإيمان والأمل هما السّبب في استمرارية الحياة ما دام الإنسان لا زال موجودًا فيها. فهي مستمرة بأحزانها وأفراحها ومصائبها ولا ينتهي أي شيء إلا عند الموت.

كما أدركت أننا نختلف بالألوان والأعراق ونتفق بأننا كلّنا بشر، نختلف في المعتقدات والأديان ونتفق على التّعايش، ونختلف من الغني ومن الفقير ومن المتعلّم والغير متعلّم ونتفق على أنها القناعة وأننا نكمّل بعضنا.

نختلف في اليأس والأمل ونتفق على استمرارية الحياة، ومهما اختلفنا نتفق أن النّاس للناس، خصوصًا في هذه الأزمات الصّعبة وأن التّضامن من خلال التّباعد الاجتماعي هو أهم وأنجح علاج قد يُتخذ.




آية أشرم، 23 سنة، معلوماتية إدارية، لبنانية تعيش في الميناء، شمال لبنان